مشاركات تركيا ... بين المواجهة و المراجعة ! فاديا مطر

تركيا ... بين المواجهة و المراجعة !
فاديا مطر
لم تتوقف خطى الصراع الدولي عن التصاعد في الكثير من البقع العالمية و التي تبتغي منها الولايات المتحدة الأمريكية
تنظيم الجغرافيا السياسية الدولية لمصلحتها تارة بحجة الأمن القومي و تارة بحجة مكافحة الإرهاب و تارة آخرى بحجة دعم
الديموقراطية لبعض حلفائها ، لكن الفارق في الأمر أن يكون الهدف هو أحد حلفاؤها في الإقليم ، فهذا قرار كبير على صعيد
الصراع الغربي مع المعسكر الشرقي ، خصوصاً أن خصمها هذه المرة هو أحد أعضاء الناتو منذ ما يقارب 70 عاماً من
الشراكة الأطلسية ، فقد باتت تركيا التي ترابطت أجندتها الإقليمية لأكثر من عقدين من الزمن مع الأجندة الأمريكية في كل
من العراق و سوريا و لبنان و غيرهم ، قيد نُذر لصراع عسكري تركي مع اليونان بدأ يأخذ طابعاً حاداً منذ فترة ، ويبدو أن
الشوكة الأمريكية في المنطقة أصبحت موجهة ضد تركيا بعد فشل التقدم العسكري نحو روسيا و الصين و حصول
إنكسارات كبيرة في مخططات الولايات المتحدة الأمريكية الجيوسياسية على أكثر من مدى ، حيث ينصب الهاجس الأمريكي
على ما تسميه قياداته كبح التوسع الروسي و التمادي الصيني ، لكن التوجه نحو "تحالف مناهض " لواشنطن عبر اليونان هو
ما ظاهره تحمية التصادم مع الغرب لأن تركيا لم تدخل في منظومة العقوبات الغربية على روسيا ، و بالتالي هو إستهداف
لروسيا من رواء الأكمة ، و باطن الأمر هو إشغال ساحة موازية لكل من روسيا و تركيا كبقعة مضافة الى ساحات التصادم
في المنطقة ، و بالتالي ضرب كل من تركيا و جوارها التي خرجت منه في سياق تحالفاتها مع واشنطن كأحد أجنحة الناتو و
فتح بقعة مشتعلة تستهدف روسيا في بحر إيجة الإستراتيجي ، فالتصعيد الآخير في أوكرانيا لم يؤت أُكله كما رغبت واشنطن
، و مثله أيضاً في مضيق تايوان و بحر الصين الجنوبي ، و ليس شرق المتوسط ببعيد عن تلك الأمثلة ، لذلك إقتضى من
الولايات المتحدة بعد تداولات في الكونغرس الأمريكي أن الشيئ الذي يجب أن تبحث عنه واشنطن هو بذل بعض الجهود
لدفع الاوكرانيين الى محادثات سياسية يسبقها وقف لإطلاق النار مع الروس بحسب ما ذكرته صحيفة فورين بوليسي
الأمريكية ، و هو إتجاه تدرسه جدياً كل من واشنطن و الإتحاد الأوروبي بعد فشل الحل العسكري و العقوبات و نفاذ الوقت
نحو وقت عصيب بدأ يُرخي ظلاله على كل مفاصل الدول الأوروبية التي ناصبت العداء لموسكو و على الواقع الإقتصادي و
السياسي في الداخل الأمريكي الذي يقف على أعتاب إستحقاقات كبرى تستعر تحت رماد الإنفجار ، لذلك فإن إشعال ساحة
موازية لتركيا التي تشهد حالياً تصعيداً في شرقها ما بين أرمينيا و حليفها القوقازي في أذربيجان وضمها لساحة سوريا
الحديثة التي تشهد تقارباً تركياً نحوها بعد تصريح الرئيس التركي بأنه كان راغباً في لقاء الرئيس بشار الأسد لو حضر قمة
منظمة شنغهاي في أوزبكستان ، فهي ساحة تكثف فيها الولايات المتحدة الضغط على روسيا بإعتبارها ساحة روسية
إستراتيجية عبر إستهداف بنى تحتية و عدة مطارات و مواقع عسكرية من قبل العدو الصهيوني على الأراضي السورية ،
وعبر عرقلة الجهود الروسية في الميدان الذي تسيطر عليه ميليشيات قسد الإرهابية ، وعبر إعادة إشعال بعض البقع التي تقع
خارج سيطرة الدولة السورية ، بينما يأخذ التصعيد في بحر إيجة بين تركيا و اليونان مسيره نحو عرض المياه الإقليمية و
ترسيم حدود الجرف القاري و نزع سلاح الجزر اليونانية و طول المجال الجوي ، و هي قضايا مترابطة في قلب النزاع
التركي اليوناني ، و التي لا تعترف أثينا فيه سوى بالنزاع حول الجرف القاري ، إلا أن هذا النزاع يأتي في مرحلة دقيقة
بحساسيتها في الزمان و المكان لجهة التنازع على جزر كاستيلوريزوأوكوس ، و هي جزر مُنحت لليونان بموجب معاهدة
باريس في العام 1947 بشرط أن تكون منزوعة السلاح ، لكن تركيا التي تلوح بالخيار العسكري لإستعادة الجزر اليونانية
تعطي بذلك الفرصة للولايات المتحدة في إشعال حرب في غرب تركيا ، كان الغرب قد أوقد نارها منذ العام 2020 بعد شراء
أنقرة لمنظومة الدفاع الجوي الروسية اس 400 التي لم تدخل الخدمة بعد في تركيا ، و هو ما إعتبره الغرب إستفزاز كبير
برغم أن اليونان تمتلك ذات المنظومة الروسية و هي قيد الخدمة و لم يتم إتخاذ أي تدابير غربية ضدها بحجة أنها إستلمتها
قبل قرارات "كاتسا" المعلنة عام 2017 ، لذا فإن واشنطن التي باتت على يقين بعدم القدرة على فك الإرتباط التركي-
الروسي في ملفات إستراتيجية تمس المصالح الغربية ، هدفت من التقارب الدراماتيكي مع اليونان لضرب التحالفات التركية
- الروسية و العلاقة مع الصين و إيران ، فكيف التقارب مع سوريا ؟ هنا تقف واشنطن في مواجهة المراجعة التركية التي
بدأتها مع سوريا ، و عودة الولايات المتحدة الأمريكية لتحديث إتفاق الدفاع المشترك مع اليونان الموقع عام 1990 بهدف
نشر قوات أمريكية في قواعد عسكرية يونانية ، الهدف منه رسالة موجهة بأحرف نافرة لتركيا بالمجمل و نحو روسيا
بالأخص بحروف مخفية ، فقد كانت القوات البحرية اليونانية قد أطلقت النار بإتجاه سفينة تجارية تركية في 15/أيلول
الجاري في حركة إستفزازية فسرها محللون عسكريون بأنها أول الغيث الأمريكي من الأوامر التصعيدية التي تنفذها اليونان
، حيث أن القواعد العسكرية الأمريكية التي تجاوز عددها 10 قواعد على الأراضي اليونانية هي تهدف لكبح تركيا بعد الخلل
بالإتفاقات مع واشنطن بإتجاه الصين و روسيا و مؤخراً تجاه سوريا ، وهي تعلم أن تركيا و اليونان أمام إنتخابات صعبة في
العام القادم ترى واشنطن أن أنقرة ستلعب بكامل أوراقها الإستراتيجية للفوز بها ، ومنها ورقة قاعدة إنجرليك العسكرية

الأمريكية في الشرق التركي و ورقة التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط و العلاقة مع كل من موسكو و دمشق و إعادة
صياغة التفاهمات و تغيير الإصطفافات الدولية و الإقليمية لكسب الإنتخابات ، فهذه التفاهمات الجديدة تضع فيها واشنطن
النظام التركي في خيارات صعبة ربما يكون القرار الأمريكي فيها هو الأسبق لسحب الوقت من اليد التركية نحو المراجعة ،
و تنشيط الحل العسكري في بحر إيجة لدفع المواجهة بحسب محللون إستراتيجيون نحو حرب عسكرية ، فهو سباق لا يمنح
تركيا الوقت اليسير لإنجاز تفاهماتها حتى مع من تختلف معهم تركيا في إعادة صياغة الورقة الإقليمية ، وهو ما عبرت عنه
المناورات الأمريكية مع ميلشيات قسد الأرهابية التي خصتها واشنطن بإستثناءات من قانون قيصر الأمريكي بالقرب من
الحدود التركية في الشمال الشرقي السوري ، و ربما يكون ضرب عصفورين بحجر واحد يكمن في إشعال فتيل النار في كل
من غرب و شرق و جنوب تركيا معاً في سباق المواجهة مع المراجعة..

2022-09-24
عدد القراءت (317)