
الجيوإقتصادية الجديدة ... وحرب "الأنابيب" !
فاديا مطر
- لم تعد خرائط الصراع و تقدم خطوط السيطرة منزوية في خانة الحصار الغربي للإقتصاد الروسي ، بل تعدته لخطوات متسابقة مع ما لا يستطيع الغرب كشفه أو النيل منه بالإعلام و التزييف ، فقد بات الوضع الإقتصادي الغربي محط قلق كل الأوساط الغربية التي إلتفت بعباءة التأمرك و بدأ إعادة الحساب لما هو أسو من التوريط الأمريكي لأوروبا في حرب عسكرية غير مباشرة مع روسيا ، و هنا إتضح أن المساحة الجيوإقتصادية لروسيا هي بالفعل مركز و مسرح تكتبه العملية العسكرية الخاصة الروسية في اوكرانيا لجهة تناغمه مع مكتسبات المعركة و تخبط كل المعسكر الغربي في وحل الإقتصاد ، وليس الحديث هنا عن الإنفاق العسكري المتزايد للإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة فحسب ، بل باتت حرب "الأنابيب" هي الجبهة الساخنة التي ترمي بنفسها في عرض المشهد الدولي ، حيث تبين أن الحزمة الخامسة من العقوبات ضد روسيا عبر حظر مصادر الطاقة باتت تمثل نقطة اللاعودة في مجال النفط الذي ستحظره روسيا عن الدول الأوروبية ، و المخطط الأمريكي للدفع بأوروبا نحو التصعيد بالعقوبات ضد روسيا هو في أدق مكامنه دفع نحو هاوية إقتصادية بعض الأوروبيين يدركونها و بعضهم يتعامى عنها ، فقد تستعد روسيا حالياً لإطلاق عملة مشفرة مدعومة من الدولة تمكنها من الإلتفاف على الدولار مع دعوة الحكومة المؤسسات المالية غير المصرفية مثل البورصات و المؤسسات الإئتمانية للإنضمام إلى شبكة الروبل مما يوفر بديلاً للوصول الى السيولة الدولية و يخفض قوس العقوبات ، و هو إجراء يعزز الرغبة المشتركة مع الصين لإعادة مقايضات العملات الثنائية بين البنكين المركزيين على تجاوز العقوبات الأمريكية كما حدث في عام 2014 و تسهيل حركة التجارة الثنائية بين الحدود عبر نظام دفع جديد كما حدث في العام 2016
و بما أن أوروبا قد تتأرجح ما بين التضخم و الإنهيار الإقتصادي فإن تشكل نظام مالي عالمي جديد بدأت ملامحه بالتشكل في مساحة قطب جيوإقتصادي آخر في العالم ، مما قد يدفع بنظام اليورأطلسي نحو هاوية لا يمكن العودة منها و لا حتى مقاومة السقوط فيها ، فالحرب بأنابيب الغاز و النفط تُخرج أوروبا من ضفة كونها طرف فعلي في الصراع مع روسيا نظراً لكونها تعتاش على الوريد الأبهر الروسي في إمداد سوق الطاقة لديها الشامل لكل مناحي الصناعة التي ترتكز عليها في عجلة الإقتصاد ، و ما الإتفاق الأوروبي-الأمريكي لملء مرافق الغاز المُخزن بنسبة 90% بحلول تشرين أول /أكتوبر القادم بدون الغاز الروسي لهو ضرب من الخيال و سيكون له التداعيات الكبرى في حال ساهم المشروع في فشله بإنهيار الإقتصاد و فقدان الدخل الأوروبي ، وعندها يكون الإقتصاد الأمريكي بعيد جغرافياً و إقتصادياً عن مؤثرات هذا السقوط
فالمنظومة الأمريكية التي تقابل بها واشنطن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تحوي الكثير من "اللآت" التي إعترضت طريقها على المستوى الدولي من أمريكا اللاتينية الى الجنوب الأفريقي وصولاً الى وسط و شرق آسيا ، و ما التوجه الإماراتي عبر زيارة الرئيس السوري بشار الأسد في آذار المنصرم و التصويت الإماراتي ضد القرار الأمريكي لإدانة العملية الروسية في اوكرانيا ، و مضافاً إليه توجيه دعوة من السعودية للرئيس الصيني لزيارة المملكة و إستعداد السعودية للدخول في المنظومة الروسية-الصينية بتسعير برميل النفط باليوان الصيني لمؤشر هام ينم عن إشارات خليجية متعددة الجهات على تردي الدولار في المنظومة البتروخليجية ، و هنا يمكن القول بأن أوروبا هي الخاسر الأكبر في معادلة الطاقة و حرب الأنابيب التي تديرها روسيا بإحترافية ، حيث لا معوض لدخل الطاقة في حال فقدانه من مصدره ، فمؤشرات التخلي الأمريكي باتت واضحة تجاه أوروبا كما إتجاه أوكرانيا المتعلقة ما بين الدعم اللوجستي الفاقد للفاعلية و ما بين خسارة مكوناتها الإقتصادية و العسكرية التي قامت عليها من إرث الإتحاد السوفييتي السابق
فأوروبا التي تستهلك ما مقداره 500 مليار متر مكعب من الغاز ، لا تستطيع واشنطن و قطر تقديم مقابله سوى 15 مليار متر مكعب بأحسن الأحوال بسبب فقدان أوروبا لمنظومات معالجة الغاز المسال و الذي يكلف نقله و تحويله للوضع الغازي إمكانيات كبيرة جداً ، مما جعل الدفعات الأمريكية الإستراضائية لدول أوروبية متناهية الصغر بعد توجه الناقلة الأمريكية العملاقة "سولانا" لميناء (بلباو ) الإسباني في منتصف نيسان الجاري و على متنها 2 مليون برميل من النفط الخام الأمريكي و توجهها الى مينائي (فيلهلمسهافن) الألماني و (روتردام) الهولندي بحسب وكالة بلومبيرغ الأمريكية دليلاً على فقدان قدرة الدعم الأمريكية و النكث بالوعود ، فهي قراءة بدأت الأصوات الأوروبية تغاير نغمتها بعد الشعور بخلل السوق النقدية و الطاقة و زيادة التضخم و فوقها التململ الأمريكي من الوفاء بالعهود ، فقد نفذت شركة غازبروم الروسية قطع خط أنابيب "يامال" العابر لبولندا في 27/نيسان الجاري لعدم القبول بالدفع بالروبل بعد توقيع الرئيس الروسي بوتين مرسوماً في 31/آذار المنصرم يحدد إجراء جديد لدفع ثمن الغاز من قبل مشترين من دول غير صديقة بالروبل الروسي ، وهو إجراء وضع حرب "الأنابيب" في موضع السلاح الفاعل تجاه أطراف العدوان ، حيث و بحسب قناة CNN الأمريكية فإن النمسا رفضت حظراً لإستيراد الغاز الروسي لأنه يضر بها بشكل أكبر من ضرره بروسيا لأن الصناعات النمساوية تعتمد على الغاز الروسي بشكل كبير ، و كان قد أكد مسؤول السياسة الأوروبية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أنه غير متفائل بشأن إجماع الأوروبيين على حظر النفط الروسي ، فيما كان المستشار الألماني أولاف شولتز قد صرح لصحيفة ديرشبيغل الألمانية في 22/نيسان أن تحقيق رغبات كييف بحظر فوري على إمدادات الغاز الروسي غير مناسب و قد يؤدي لعواقب وخيمة ، هذا و قد كان أعلن المستشار النمساوي "كارل نهامر" قبول بلاده بالشروط الروسية بالدفع بالعملة الروسية ، وقد إتخذ وزير الخارجية الهنغاري ذات الموقف مؤكداً بأن توريدات الغاز الروسي تتم بشكل طبيعي
و كانت قد أكدت وكالة بلومبيرغ الأمريكية أن عشرة شركات أوروبية على الأقل من مستوردي الغاز الروسي فتحت بالفعل حسابات بالروبل في شركة "غازبروم بنك" تلبية للمطالب الروسية ، و وفقاً لنفس المصدر فإن مصدر مقرب من "غازبروم" صرح بأن أربع شركات أوروبية قد سددت مدفوعاتها بالروبل الروسي و أن التسويات للغاز ستتم بعد 15/آيار القادم عند موعد سداد المدفوعات التالية ، فالتعاملات الأوروبية مع بداية يوم 27/نيسان الحالي قد أفادت بقفزة لأسعار عقود الغاز في البورصات الأوروبية بنحو 21% مع قطع خطوط "يامال" الروسية و تجاوز سعر المتر المكعب من الغاز قيمة 1350 دولار بعد إيقاف التوريدات لكل من بولندا و بلغاريا ، فهذا مؤشر كبير على ما دفعت به واشنطن حلفائها الأوروبيين نحو الإرتطام بالجدار أو العودة بما عاد به الأمين العام للأمم المتحدة في زيارته لموسكو و لقائه الرئيس بوتين و الوزير لافروف ، و الجعبة الفارغة سوى من مقولة " وفسّر الماء بعد الجهد بالماء" ، ليكون الخيار الأكبر في حرب الأمن القومي الروسي و فرض الضمانات الأمنية من كل المعسكر الغربي هو القبول بتعدد الأقطاب و التعايش مع واقع خسارة الحرب مع روسيا حتى و لو آدى الزج بالسلاح لإطالة أمد الحرب ، فلعبة عض الأصابع لم تبلغ ذروتها بعد و قطع شرايين الطاقة عن قارة عجوز تحاول التصابي بالقبضة الأمريكية لهو دفع للنفس نحو الهاوية ، فهل تقرأ أروربا مؤشرات التسارع نحو خسارة شريايين الطاقة متأخرة ؟ و هل تستطيع إيقاف الغضب الشارعي و الإقتصادي من خسارة سوق و ممول مثل روسيا ؟ هذا برسم المتعامين عن ما يدور ما بين مطرقة الشارع و سندان الإقتصاد الذي بدأ حديده بالإنصهار ، و بتوضح مقولة "إياك و حصّر دولة نووية و إقتصادية في الزاوية " .