مشاركات ما بين عسكرة الردع الوقائي و سياسة الغموض الإستراتيجي...أين واشنطن ؟. بقلم فاديا مطر

مع تزايد مستوى التحذيرات من عسكرة محتملة لحلف الناتو تجاه الصين و روسيا على أكثر من مدى ، تنخفض المؤشرات التي تقرأ أي تهدئة محتملة أو قريبة للوضع المتأزم ، فالقارة العجوز التي تقف على أبواب أخطار كبيرة بدأت تتحسس تلك التحذيرات المتزايدة من أوساطها السياسية و الشعبية بلغة الخوف ، حيث هي في أتون إختبارات مصيرية تجاه دفاعاتها و أنظمة الطاقة و شعاراتها و نمط سياستها السياسية و العسكرية و الإقتصادية حتى الآن ، مما يجعل من الدوافع الكبرى في واشنطن سبب رئيسي لضمان إستمرار الصراع في اوكرانيا تحت غطاء سياسة "الغموض الإستراتيجي" الذي تميز منذ بدء العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا  وحتى قبله منذ مرحلة آخر تقدم للناتو في العام 2014  بعدة عوامل منها أنه سحب القرار الأوروبي بتوقيف تزويد اوكرانيا بالسلاح مما أوصل القارة الأوروبية الى مرحلة المعاناة الإقتصادية و السياسية الداخلية و الخارجية و العسكرية ، و العامل الآخر وقع في أنه ليس هناك حتى الآن أي قراءة أوروبية معلنة لأي دور في سياق المسار المنادي لفضح الدعم المقدم لأوكرانيا أنه بالأساس هو لدعم مخططات واشنطن و ليس لدعم بروكسل أو لندن ، بينما أكد مراقبين بأن هناك دعوات شبه معلنة في الكونغرس الأمريكي تدعو الى عدم دفع أي دولار أمريكي لتغذية الصراع في اوكرانيا من الإحتياطي المصرفي ، و هو مؤشر على أن هناك توازن جديد بشكل غير مستقر بعد للمنصة التي تقف عليها واشنطن في صراعها مع روسيا ، بعدما وصل الجفاف في الطاقة الى الإحتياطيات النقدية و رفع قيمة الفوائد مما تسبب بمعاناة ما يقارب 350 مليون نسمة في أوروبا ، و هو رقم بالقياسات الدولية ليس بقليل على المدى القريب و المتوسط ، فهذه الملايين تراقب السياسات الأوروبية عن كثب في معترك الحرب مع روسيا ، و في مقلب آخر مقابل تشديد البنك الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي سياسته النقدية الإستراتيجية بشكل معلن نحو تغذية الصراعات خارج الحدود بشكل غامض ، فكيف ترعى واشنطن سياسة الغموض الإستراتيجي بهذا الشكل المعلن ؟ بحسب صحف غربية فأن الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تعد قادرة فعلياً على توفير الإحتياجات الأوروبية من الغاز و نظم الطاقة و تأمين بديل كافي للغاز الروسي مع فشل وزراء الطاقة الأوروبيون في تحديد سقف لسعر الغاز الروسي ، بالإضافة لعامل التنافر بين أقطاب ذلك الإتحاد تجاه ما وصلت إليه التداعيات من حرب اوكرانيا بغياب مدى زمني ، هي نفسها الولايات المتحدة التي زادت من بيع غازها المسال عبر إسطول بارجات بحرية و الزيادة الكبيرة في مبيعات السلاح ، و هي التي تعلم بأن هناك تنفيذ لحظر واردات النفط الروسي في كانون الأول القادم و التي بلغت في حزيران المنصرم أكثر من 1.7 مليون برميل يومياً من النفط الروسي لأسواق آسيوية ، فهي مصيدة وقعت فيها أوروبا منفردة في تأمين الفارق على أبواب شتاء يُوصف بأنه قاسي أمام أعين الولايات المتحدة الأمريكية ، فالغموض الإستراتيجي حتى اللحظة هو لسان حال التعامل الأمريكي مع أوروبا التي فرضت بأوامر أمريكية ما يقارب 11 الف عقوبة على روسيا حتى الآن ليس لها سابقة في التاريخ ، و المستفيد الأكبر مازالت واشنطن حتى اللحظة برغم الخسارات التي منيت بها جراء هذا الكباش في اوكرانيا ، و التي تُصّر حتى الآن واشنطن على رعاية كل مسلتزمات ذلك الصراع و إستمراريته مع روسيا لإعادة تنسيق الجغرافيا السياسية الدولية التي تتناسب و مصالحها مثلما كانت قبل ثلاثة أرباع القرن بعد الحرب العالمية الثانية ، بينما هي تربت على الكتف الأوروبي و ترعى شعاراته كواجهة سياسية معلنة مدركة لبعدها الجغرافي عن مسرح العمليات في سياسة يكتنفها الغموض الإستراتيجي الذي مازال اللعبة الأكبر من والولايات المتحدة الأمريكية تجاه أوروبا بكل المجالات ، أما عسكرة الردع الوقائي فليست بعيدة كثيراً عن تلك السياسة الأمريكية التي أدخلت فيها القارة الأوروبية الى قلب المعاناة ، وهي تعلم أن حرب الطاقة ما بين الغرب و روسيا أظهرت أسواق جديدة غير متوقعة في الشرق الأوسط و آسيا و ذات عمل متكاتف لمصافي نفط حلت بالواقع محل المصافي الأمريكية و حققت أرباحاً كانت في الصالح الروسي تحديداً ، و هذا الصالح إنضمت إليه كل من الصين و الهند و إيران بفائدة مستدامة على كل المستويات حتى العسكرية مع إنعقاد قمة شنغهاي في أوزبكستان في 15 أيلول/سبتمبر الجاري ، فالولايات المتحدة تدرك جيداً أن أي تسوية محتملة للصراع الغربي مع روسيا والصين و لو بالشكل الظاهري تحتاج فيه لتنازلات كبيرة و ربما تطال البعد العسكري الإستراتيجي للوجود الأمريكي في الخارج بعد فشل خيار هزيمة روسيا في الميدان العسكري ، و هو ما تحاول فيه واشنطن بخبث تدوير زواياه ليظهر بشكل متناسب مع مكانتها الدولية كقطب دولي ، أي أن الخيار العسكري تجاه أي حرب الى ما بعد الخطوط التي وصل إليها تجاه كل من الصين و روسيا لم يعد يحتمل التجزئة إن لم تعمل الولايات المتحدة على جعل هذة العسكرة المتنامية مسار رئيسي وقائي لردع أي حرب قد تصل الى مرحلة نووية ، فالولايات المتحدة تعلم أن أي حرب مباشرة خارج حدودها و لو بشكل لا يرقى لمستوى دولي أنها ليست في صالحها مع ما تعانيه من تخبط داخلي في جملة الإستحقاقات المترتبة عليها و الإنقسامات السياسية الحزبية التي قد تؤدي على خلفية الرفض الكبير للحزب الجمهوري بقبول نتائج إنتخابات العام 2020 و عودة قصة الهجوم على مبنى الكابيتول في 6/يناير 2021 الى واجهة الأحداث مما قد يؤدي الى طفو معاناة شعبية تخطو بخطواتها نحو ظهور نسخ معدلة من الشغب الحار الذي أكدته مراكز دراسات أمريكية عديدة بأن "ثلثي الأمريكيين يعتقدون بأن الإنقسام السياسي إزداد حدة منذ مطلع العام 2021 ، و أن نصف المقترعين للرئيس السابق دولاند ترامب يرون إحتمال الحرب الأهلية قائم بشكل كبير " ، فهذا المدخل الخطر هو الذي تغطيه واشنطن بسياسة التصعيد العسكري إن كان في اوكرانيا أو تجاه الصين في تايوان ، حيث أن الشكل الذي ترى فيه واشنطن أن أي صراع عسكري مباشر و محتمل هو وقائي و ردعي لحرب أكبر لعلمها أنه لن يبقى في حدوده الإقليمية المحدودة ، و لن تستطيع الولايات المتحدة الوقوف فيها في المكان المتوازن إذا ما تدحرجت كرة اللهب العسكرية و لو بالسلاح التقليدي نحو حدود آخرى ، فالسؤال المطروح في هذه المرحلة هو أين حدود قدرة الولايات المتحدة الأمريكية و الغرب على تدوير الخيار الإستراتيجي للأزمات ؟ خصوصاً أن هناك مرحلة اللا حدود إذا ما إندلعت أي حرب ما بين الولايات المتحدة الأمريكية و كل من روسيا أو الصين فإنها لن تكون حرب عالمية ثالثة فقط ، بل ستكون حرب نهاية العالم بحسب صحيفة ناشيونال إنتراست الأمريكية ، و إنما عسكرة السياسة الأمريكية الخارجية بهذا النحو هي لسبب وقائي رادع لتطور أي مواجهة محتملة بالرؤية الأمريكية للبيت الأبيض و وزارة الدفاع ، مع التظاهر بأن إحتمالية محدوديتها تتحكم بها الذراع العسكرية في الناتو ، فواشنطن التي دفعت بتايوان في صراعها الى الخلاف مع وزارة الدفاع الأمريكية بشأن الأسلحة التقنية المتطورة و إمتلاك سفن حربية و مقاتلات إستراتيجية ، هي نفسها التي تدعي حماية تايبيه في وجه الصين و هي ذاتها التي دفعت بتعزيزات أوروبية الى أوكرانيا بشكل وصل فيه الحد الى الإحتياطي الإستراتيجي العسكري لدول في أوروبا ، فكيف ستحل واشنطن تلك المعضلة فيما إذا فشلت خيارات عسكرة الردع الوقائي ؟ و هل ستعمل سياسة الغموض الإستراتيجي فعلتها المكشوفة مع دول في آسيا كما فعلت في أوروبا ؟ هي تلك العادلات التي تقف برهن المستجدات التي قد تعبر طريق واشنطن خارج حدودها معتمدة بذلك على سياسات قد لا تجدي نفعاً في زمان غير محدد و مكان بعيد عن الحدود .

2022-09-19
عدد القراءت (97584)